مصارف الزكاة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي قامت بعدله مخلوقاته، ونالت رحمته كل من تعثرت به احتياجاته، وصار فضله سبباً موصلاً لنيل مرضاته، أحمده حمداً يليق بجلاله وكبريائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..

فمن تمام عدل الله سبحانه أن شرع الزكاة على الغني؛ محققة التوازن بين طبقات المجتمع، ليسد صاحب الحاجة حاجته ممن له كفاية، وليستزيد من كثرت عليه ملهيات الدنيا من الأجر والمثوبة؛ بما يقدمه من عون بماله تجاه من تعثرت به الدنيا، لا سيما أن تكون هذه المعونة المقدمة عبادة من العبادات المقربة إلى الله عز وجل، بل فريضة من فرائضه عزوجل على خلقه.

وإن الزكاة كما لا يخفى، لا بد لأن تكون في موضع القبول أن تصرف في مصارفها الشرعية، والتي حددها الله عزو جل في قوله:

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]، فهؤلاء المذكورون في هذه الآية الكريمة هم أهل الزكاة الذين جعلهم الله محلاً لدفعها إليهم, لا يجوز صرف شيء منها إلى غيرهم إجماعاً.
ولا يجوز صرف الزكاة في غير هذه المصارف التي عينها الله من المشاريع الخيرية الأخرى, كبناء المساجد والمدارس, لقوله تعالى:

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية, و (إنما) تفيد الحصر, وتثبت الحكم لما بعدها, وتنفيه عما سواه, والمعنى: ليست الصدقات لغير هؤلاء, بل لهؤلاء خاصة, وإنما سمى الله الأصناف الثمانية, إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها.
——————–

وإليكم بيان هذه الأصناف الثمانية:

{لِلْفُقَرَاءِ}:
الفقير هو المتصف بالفقر، وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه، وضده الغني.

——————–

{وَالْمَسَاكِينِ}:
ذو المسكنة، وهي المذلّة التي تحصل بسبب الفقر.

ولا شك أن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر، وإنما النظر فيما إذا جمع ذكرهما في كلام واحد؛ فقيل: هو من قبيل التأكيد، ونُسب هذا إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
وقيل: يراد بكل من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى، واختُلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة، الأوضح منها: أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجاً لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلة. والمسكين المحتاج احتياجاً يلجئه إلى الضراعة والمذلّة. ونسب هذا إلى ابن عباس والزهري ومالك وأبي حنيفة وابن السكيت ويونس بن حبيب.

فالمسكين أشد حاجة؛ لأن الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمل ألم الخصاصة، والأكثر إنما يكون ذلك من شدة الحاجة على نفس المحتاج.

——————–

{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}:
العاملون لأجلها، أي: لأجل الصدقات. ومعنى العمل: السعي والخدمة.

وهم العمال الذين يقومون بجمع الزكاة من أصحابها, ويحفظونها, ويوزعونها على مستحقيها بأمر إمام المسلمين, فيعطون من الزكاة قدر أجرة عملهم, إلا إن كان ولي الأمر قد رتّب لهم رواتب من بيت المال على هذا العمل, فلا يجوز أن يعطوا شيئا من الزكاة, كما هو الجاري في هذا الوقت, فإن العمال يعطون من قبل الدولة, فيأخذون انتدابات على عملهم في الزكاة, فهؤلاء حرام عليهم أن يأخذوا من الزكاة شيئا عن عملهم; لأنهم قد أعطوا أجرة عملهم من غيرها.

ويشترط فيهم الإسلام والأهلية، ولا يشترط فقرهم بل يعطون وإن كانوا أغنياء لحديث أبي سعيد رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة – وذكر منهم – العامل عليها). [رواه أبو داود وابن ماجه].

——————–

{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}:
هم الذين تُؤَلّف، أي: تؤَنّس قلوبهم للإسلام من الذين دخلوا في الإسلام بحدثان عهد، أو من الذين يُرَغَّبون في الدخول في الإسلام؛ لأنهم قاربوا أن يسلموا.

وللمؤلفة قلوبهم أحوال:

– فمنهم من كان حديث عهد بالإسلام، وعُرِف ضعفٌ حينئذ في إسلامه، مثل أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام من مسْلَمَة الفتح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أعطي قريشاً أتألفهم لأنهم حديثو عهد بجاهلية) [متفق عليه].

– ومنهم من هم كفار أشدّاء مثل عامر بن الطفيل.

– ومنهم من هم كفار وظهر منهم ميل إلى الإسلام، مثل صفوان بن أمية، حيث قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ. [رواه مسلم].

فمثل هؤلاء أعطاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام.

——————–

{وَفِي الرِّقَابِ}:
وهم الأرقاء المكاتبون الذين لا يجدون وفاءً, فيُعطى المكاتب ما يقدر به على وفاء دينه حتى يعتق ويخلص من الرق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33], ويجوز أن يشتري المسلم من زكاته عبداً فيعتقه, ويجوز أن يفتدى من الزكاة الأسير المسلم; لأن في ذلك فك رقبة المسلم من الأسر من باب أولى؛ لأن الأسر أعظم ضرراً من الرق.

——————–

{وَالْغَارِمِينَ}:
والمراد بالغارم المدين, وهو نوعان:

أحدهما: غارم لغيره, وهو الغارم لأجل إصلاح ذات البين, بأن يقع بين قبيلتين أو قريتين نزاع في دماء أو أموال, ويحدث بسبب ذلك بينهم شحناء وعداوة, فيتوسط الرجل بالصلح بينهما, ويلتزم في ذمته مالاً عوضاً عما بينهم, ليطفئ الفتنة, فيكون قد عمل معروفاً عظيماً, من المشروع حمله عنه من الزكاة, لئلا تجحف الحمالة بماله, وليكون ذلك تشجيعاً له ولغيره على مثل هذا العمل الجليل, الذي يحصل به كف الفتن والقضاء على الفساد, بل لقد أباح الشارع لهذا الغارم المسألة لتحقيق هذا الغرض؛ ففي صحيح مسلم عن قبيصة, قال: تحملت حمالة, فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها).

الثاني: الغارم لنفسه, كأن يفتدي نفسه من كفار, أو يكون عليه دين لا يقدر على تسديده, فيعطى من الزكاة ما يسدد به دينه, لقوله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ}.

——————–

{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}:
في سبيل الله, بأن يعطى من الزكاة الغزاةُ المتطوعة الذين لا رواتب لهم من بيت المال; لأن المراد بسبيل الله عند الإطلاق الغزو, قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. كما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور.

وكذلك يدخل فيه جهاد الدعوة والكلمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) [رواه أحمد وأبو داود].

——————–

{وَابْنِ السَّبِيلِ}:
وهو المسافر المنقطع به في سفره بسبب نفاد ما معه أو ضياعه; لأن السبيل هو الطريق, فسمي من لزمه ابن السبيل؛ والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل) [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه], فيعطى ابن السبيل ما يوصِّلُه إلى بلده. وإن كان في طريقه إلى بلدٍ قصدَه, أُعطي ما يوصِّلُه ذلك البلد, وما يرجع به إلى بلده.

——————–

مسائل متعلقة بالأصناف الثمانية:

– إن بقي مع ابن السبيل أو الغازي أو الغارم أو المكاتب شيء مما أخذوه من الزكاة زائداً عن حاجتهم, وجب عليهم رده; لأنه لا يملك ما أخذه ملكاً مطلقاً, وإنما يملكه ملكا مراعى بقدر الحاجة, وتحقق السبب الذي أخذه من أجله, فإذا زال السبب, زال الاستحقاق.

– يجوز صرف جميع الزكاة في صنف واحد من هذه الأصناف المذكورة, قال تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}ولحديث معاذ حين بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن, فقال: (أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) متفق عليه, فلم يذكر في الآية والحديث إلا صنفاً واحداً, فدل على جواز صرفها إليه.

– ويجزئ الاقتصار على إنسان واحد, (لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر) رواه أحمد, وقال صلى الله عليه وسلم لقبيصة: (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة, فنأمر لك بها), فدل الحديثان على جواز الاقتصار على شخص واحد من الأصناف الثمانية.

– ويستحب دفعها إلى أقاربه المحتاجين الذين لا تلزمه نفقتهم الأقرب فالأقرب, لقوله صلى الله عليه وسلم : (صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة) رواه الخمسة وحسنه الترمذي.

——————–

الأصناف الغير مستحقة للزكاة:

1. بني هاشم, ويدخل فيهم: آل العباس, وآل علي, وآل جعفر, وآل عقيل, وآل الحارث بن عبد المطلب, وآل أبي لهب, لقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد, وإنما هي أوساخ الناس) أخرجه مسلم.

——————–

2. من يعول من أقاربه: فلا يجوز للإنسان أن يدفع زكاة ماله إلى أقاربه الذين يلزمه الإنفاق عليهم؛ لأنه يقي بها ماله حينئذ, أما من كان ينفق عليه تبرعاً, فإنه يجوز أن يعطيه من زكاته, ففي الصحيح: (أن امرأة عبد الله سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بني أخ لها أيتام في حجرها, أفتعطيهم زكاتها, قال: نعم.

ولا يجوز دفع زكاته إلى أصوله, وهم آباؤه وأجداده, ولا إلى فروعه, وهم أولاده وأولاد أولاده. ولا يجوز له دفع زكاته إلى زوجته, لأنها مستغنية بإنفاقه عليها, ولأنه يقي بها ماله.

ولا يجوز دفع الزكاة إلى امرأة فقيرة إذا كانت تحت زوج غني ينفق عليها, ولا إلى فقير إذا كان له قريب غني ينفق عليه, لاستغنائهم بتلك النفقة عن الأخذ من الزكاة.

——————–

3. الأغنياء: والغني هو من يملك كفايته وكفاية من يعوله من أهله كما قال صلى الله عليه وسلم : (لا تحل الصدقة لغني) [رواه الخمسة].

——————–

4. القوي السوي المكتسب: كما قال صلى الله عليه وسلم : (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) [رواه الخمسة]، أي: القوي السليم الأعضاء. وقال صلى الله عليه وسلم : (لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) [رواه أحمد وأبو داود والنسائي]. ويستثنى من هذين الصنفين خمسة أصناف، هي: (الغارم، والمجاهد، والعامل عليها، والمؤلفة قلوبهم، وابن السبيل) فيعطون من الزكاة وإن كان عندهم ما يكفيهم لحوائجهم الأصلية.

——————–

5. الكفرة: فلا يعطى الكفار من الزكاة كما قال صلى الله عليه وسلم : (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) [متفق عليه]. أي: فقراء المسلمين، ولا يستثنى من ذلك إلا صنف المؤلفة قلوبهم، فإنها تعطى للكفار لتأليفهم أو لدفع شرهم كما سبق.

——————–

ويجب على المسلم أن يتثبت من دفع الزكاة, فإن دفعها لمن يعلم عدم استحقاقه للزكاة فلا تجزئ عنه، بل يجب أداؤها مرة أخرى لمن يستحق. وأما إذا دفعها إليه ولم يعلم عدم استحقاقه فإنها تجزئ وإن تبين أنه غير مستحق بعد ذلك؛ وذلك لحديث الرجل الذي تصدق على غني وسارق وزانية فقبل الله منه [متفق عليه]. أما إذا لم يتبين عدم استحقاقه, فالدفع إليه يجزئ, اكتفاء بغلبة الظن, ما لم يظهر خلافه, (لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أتاه رجلان يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر, ورآهما جلدين, فقال: إن شئتما أعطيتكما منها, ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب).

هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد.